وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي:يكتب..حوض النيل وتداعيات التغير المناخي المحتملة

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
حوض النيل وتداعيات التغير المناخي المحتملة
في ظل انعقاد المنتدى الإقليمي الثالث لأصحاب المصلحة المبتكرين في حوض النيل الشرقي “ENTRO” بنيروبي، تتعاظم أهمية تسليط الضوء على التحديات المناخية التي تواجه هذه المنطقة الحيوية. فحوض النيل يُعد من أكثر المناطق تأثرًا بتغير المناخ، ليس فقط بسبب الظواهر البيئية المتسارعة، بل أيضًا بفعل التعقيدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بالموارد المائية المشتركة. إن مواجهة هذه التحديات تتطلب تعاونًا إقليميًا حقيقيًا يتجاوز المصالح الضيقة، ويسعى إلى بناء رؤية مشتركة قائمة على العدالة والاستدامة والمسؤولية المتبادلة.
ولا تقتصر الإجراءات المطلوبة لمواجهة التغير المناخي في حوض النيل على التكيف البيئي فحسب، بل تمتد لتشمل تحولات جذرية في نماذج التنمية. ويأتي على رأس هذه الإجراءات استعادة النظم البيئية المتدهورة من خلال حملات التشجير وإعادة تأهيل المناطق المتصحرة، وتبني ممارسات زراعية مرنة تُقلل من استنزاف الموارد، إلى جانب تطبيق تقنيات ري ذكية لترشيد استهلاك المياه. كما تبرز الحاجة إلى بناء أنظمة إنذار مبكر وتبادل المعلومات المناخية بين دول الحوض، بما يتيح التحرك الاستباقي بدلًا من الاكتفاء بردود الفعل المتأخرة. وعلى الصعيد الاجتماعي، يظل تمكين المجتمعات المحلية وتعزيز قدرتها على التكيف محورًا أساسيًا، لا سيما حين يتناغم التغيير المجتمعي مع توجهات السياسات العامة.
ولكي تحتل القضايا المناخية موقعًا مركزيًا في أجندات التنمية الوطنية، تبرز الأدوار الحاسمة لأصحاب المصلحة. فالدبلوماسيون السابقون، بما يملكونه من خبرات في تعقيدات العلاقات الإقليمية، يمكنهم الدفع بعجلة التنسيق وصياغة تفاهمات عابرة للحدود. كما يملك القادة الدينيون أدوات أخلاقية ومعنوية قادرة على توجيه المجتمعات نحو تحمل مسؤولياتها البيئية، انطلاقًا من القيم الدينية الراسخة. أما وسائل الإعلام، فهي الجسر الأوسع لنقل المعرفة إلى الجمهور، ويمكنها من خلال خطاب بيئي علمي وإنساني أن تعزز الوعي وتخلق ضغطًا شعبيًا يدفع صناع القرار إلى اتخاذ خطوات جدية. ويُعد التناغم بين هذه القوى ركيزة أساسية لنقل ملف المناخ من الهامش إلى قلب السياسات التنموية.
ورغم الصورة القاتمة التي يرسمها الواقع المناخي، إلا أن هناك فرصًا كامنة يمكن البناء عليها. فالتغير المناخي، بحد ذاته، أصبح دافعًا للابتكار، وبرزت مجالات واعدة في تقنيات الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، والتكنولوجيا البيئية. كما بدأت بعض دول الحوض في جذب تمويلات دولية لمشروعات التكيف والتخفيف، ما يفتح آفاقًا جديدة للاستثمار والتنمية. بل إن هذه التهديدات دفعت بعض الدول إلى مراجعة نماذجها الاقتصادية، وتبني رؤى أكثر توازنًا نحو اقتصاد أخضر مستدام.
غير أن اغتنام هذه الفرص يتطلب مقاربات مدروسة وواعية. يجب أن تُبنى الخطط التنموية على أساس تكاملي يراعي الترابط الوثيق بين الماء والغذاء والطاقة. فالتوسع الزراعي أو الصناعي غير المحسوب قد يؤدي إلى أزمات مائية خانقة. ومن هنا تبرز أهمية التخطيط المعتمد على البيانات المناخية الدقيقة، إلى جانب إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني من خلال شراكات ذكية ذات أهداف واضحة وقابلة للقياس.
وتتفاقم التحديات حين ندرك أن دول الحوض تطمح لتحقيق أهداف تنموية تتطلب كميات مياه تفوق ما هو متاح فعليًا في النظام الهيدرولوجي الحالي. ولردم هذه الفجوة، لا بد من استراتيجيات تدمج بين تقليل الطلب ورفع كفاءة الاستخدام، والتوسع في البدائل. من بين هذه الحلول: تحسين شبكات الري والصرف، اعتماد أنماط زراعية موفرة للمياه، إعادة استخدام المياه المعالجة، والاستثمار في تقنيات التحلية. ويُشترط أن تندرج هذه الحلول ضمن إطار إقليمي متكامل يُراعي مصالح الجميع، ويعزز فرص التكامل بدلًا من الصراع.
وفي ظل كل ما سبق، يبقى الحفاظ على روح التعاون بين شعوب وحكومات الحوض ضرورة لا ترفًا. فالمواطن هو محور أي تحول مستدام، ويُفترض أن يُشارك بفعالية في البرامج المجتمعية المعنية بالمياه والمناخ، وأن يتبنى سلوكيات مسؤولة، ويطالب بالشفافية والمساءلة. أما أصحاب المصلحة، فعليهم الاستمرار في بناء جسور الثقة، وتوسيع آفاق الشراكة في إطار مبادرة حوض النيل، عبر الاستفادة من المكتسبات، كأنظمة المعلومات المشتركة والمشروعات الإقليمية للبنية التحتية.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن التحديات المناخية التي تواجه حوض النيل هي تحديات وجودية، لكنها قابلة للتحول إلى فرص، إذا ما توفرت الإرادة السياسية، والرؤية المستنيرة، والانفتاح على الابتكار والتعاون الحقيقي. إنها لحظة فارقة، قد تكون بداية جديدة لمسار تنموي أكثر عدالة واستدامة يعود بالنفع على الجميع.